فصل: تفسير الآية رقم (134)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ فلها حكم الاستئناف البياني، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أولياء الشياطين بتأويل ‏{‏كذلك‏}‏ المذكور‏.‏

والمعنى‏:‏ ومِثْل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعَلنا في كلّ قرية مضت أكابرَ يصدّون عن الخير، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشرّك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمَممِ الأخرى، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين، فإنَّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين‏.‏

فالجَعل‏:‏ بمعنى الخلق ووضععِ السّنن الكونيّة، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع، وبخاصّة القُرى‏.‏

وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى، لأنَّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه، بخلاف أهل القرى، فإنَّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وممنّ حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏ فجعل النّفاق في الأعراب نفاقاً مجرّداً، والنّفاق في أهل المدينة نفاقاً مارداً‏.‏

وقد يكون الجَعل بمعنى التّصيير، وهو تصيير خَلْق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا‏.‏ ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها ‏(‏أفلاطون‏)‏ في «كتابه»، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة ‏(‏أثينة‏)‏ في زمن جمهوريتها، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلاّ في مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها‏.‏

وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذَا أردْنا أن نهلك قرية أمَّرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ على قراءة تشديد ميم‏:‏ ‏{‏أمَّرنا‏}‏‏.‏ والأظهر في نظم الآية‏:‏ أنّ ‏{‏جعلنا‏}‏ بمعنى خلقنا وأوجدنا، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله‏:‏ ‏{‏وجعل الظّلمات والنّور‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ فمفعوله‏:‏ ‏{‏أكابر مجرميها‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في كل قرية‏}‏ ظرف لغو متعلّق ب ‏{‏جعلنا‏}‏ وإنَّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر، ليَعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سُنن أهل القرى المرسل إليها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أكبر مجرميها‏}‏ إيجاز لأنَّه أغنى عن أن يقول جعلنا مُجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة، وقوله‏:‏ ‏{‏ليمكروا‏}‏ متعلّق ب ‏{‏جعلنا‏}‏ أي ليحصُل المكر، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن‏.‏

ويحتمل أن يكون ‏{‏جعلنا‏}‏ بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما‏:‏ ‏{‏أكبر مجرميها‏}‏ على أنّ ‏{‏مجرميها‏}‏ المفعول الأوّل، و‏{‏أكابر‏}‏ مفعول ثان، أي جعلنا مجرميها أكابر، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب، إذ ليسوا بأهل للسؤدد، كما قال طفيل الغنوي‏:‏

لا يصلح النّاس فَوضى لا سَراة لهم *** ولا سَراة إذا جُهَّالهم سادوا

تُهدَى الأمورُ بأهل الرأي ما صَلُحت *** فإنْ تولَّتْ فبالأشرار تَنْقَادُ

وتقديم قوله‏:‏ ‏{‏في كل قرية‏}‏ للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل‏.‏ وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم، وتفاقم ضرّه، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك القرية، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين مَن أسلم منهم‏.‏

ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏‏.‏

واللاّم في ‏{‏ليمكروا‏}‏ لام التّعليل، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد، أن يعمل الصّالح للصلاح، وأن يعمل الفاسد للفساد، والمكرُ من جملة الفساد، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر، فللّه تعالى في إيجاد أمثالهم حِكَم جمّة، منها هذه الحكمة، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره، ويظهر انْدِحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل؛ ويجوز أن تكون اللام المسماةَ لام العاقبة، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ودخلت مكّة في عموم‏:‏ ‏{‏كل قرية‏}‏ وهي المقصود الأول، لأنَّها القرية الحاضرة الّتي مُكِر فيها، فالمقصود الخصوص‏.‏ والمعنى‏:‏ وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلَهم، وإنَّما عُمّم الخبرُ لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها، مثل قرية‏:‏ الحِجر، وسَبا، والرّس، كقوله‏:‏ ‏{‏تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏، ولقصد تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيَّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أكبر مجرميها‏}‏ أكابر جمع أكبر‏.‏ وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم، يقال‏:‏ ورثوا المجد أكْبَر أكْبَر، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السِنّ ولا في الجسم، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وُصف به الجمع ولو كان معتبراً بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير‏.‏

وجمع على أكابر، يقال‏:‏ ملوك أكابر، فوزن أكابر في الجمع فَعالل مثل أفاضل جمع أفضل، وأيامِنَ وأشَائِمَ جمع أيَمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة‏.‏

وأعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المُجرّد والمزيد‏.‏ فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أكبر مجرميها‏}‏ إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين‏.‏

والمكر‏:‏ إيقاع الضرّ بالغير خُفية وتحيُّلاً، وهو من الخداع ومن المذام، ولا يغتفر إلاّ في الحرب، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلاّ به، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكرَ الله واللَّهُ خير الماكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ فهو من المشاكلة لأنّ قبلهُ ‏{‏ومكروا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏، أي مكروا بأهل الله ورسله‏.‏ والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء المشركين على النّاس في صرفهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام، قال مجاهد‏:‏ كانوا جلسوا على كلّ عقبة ينفّرون النّاس عن اتّباع النّبيء صلى الله عليه وسلم

وقد حذف متعلِّق‏:‏ ‏{‏ليمكروا‏}‏ لظهوره، أي ليمكروا بالنَّبيء عليه الصلاة والسلام ظنّاً منهم بأنّ صدّ النّاس عن متابعته يضرّه ويحزنه، وأنَّه لا يعلم بذلك، ولعلّ هذا العمل منهم كان لما كثُر المسلمون في آخر مدّة إقامتهم بمكّة قبيل الهجرة إلى المدينة، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يمكرون إلا بأنفسهم‏}‏، فالواو للحال، أي هم في مكرهم ذلك إنَّما يضرّون أنفسهم، فأطلق المكر على مآله وهو الضرّ، على سبيل المجاز المرسل، فإنّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به، فلمّا كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار‏.‏

وجيء بصيغة القصر‏:‏ لأنّ النّبيّء صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضرّ من صدّهم النّاس عن اتِّباعه، ويَلحق الضرّ الماكرين، في الدّنيا‏:‏ بعذاب القتل والأسر، وفي الآخرة‏:‏ بعذاب النّار، إنْ لم يؤمنوا فالضرّ انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي، وهو قصر قلب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ جملة حال ثانية، فهم في حالة مكرهم بالنّبيء متّصفون بأنَّهم ما يمكرون إلاّ بأنفسهم وبأنَّهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم، والشّعور‏:‏ العلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ الله‏}‏‏.‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 123‏]‏ لأنّ هذا حديث عن شيء من أحوال أكابر مجرمي مكّة، وهم المقصود من التّشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها‏.‏ ومكّة هي المقصود من عموم كلّ قرية كما تقدّم، فالضّمير المنصوب في قوله‏:‏ جاءتهم‏}‏ عائدٌ إلى ‏{‏أكابر مجرميها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 123‏]‏، باعتبار الخاصّ المقصود من العموم، إذ ليس قولُ‏:‏ ‏{‏لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ بمنسوب إلى جميع أكابر المجرمين من جميع القرى‏.‏

والمعنى‏:‏ إذا جاءتهم آية من آيات القرآن، أي تُليت عليهم آية فيها دعوتهم إلى الإيمان‏.‏ فعبّر بالمجيء عن الإعلام بالآية أو تلاوتها تشبيها للإعلام بمجيء الدّاعي أو المرسل‏.‏ والمراد أنَّهم غير مقتنعين بمعجزة القرآن، وأنَّهم يطْلبون معجزات عَيْنية مثل معجزة موسى ومعجزة عيسى، وهذا في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ لجهلهم بالحكمة الإلهيّة في تصريف المعجزات بما يناسب حال المرسل إليهم، كما حكى الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقَالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنَّما الآيات عند الله وإنَّما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50، 51‏]‏؛ وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم «ما من الأنبياء نبيء إلاّ أعطي من الآيات ما مِثْلُه آمنَ عليه البشر، وإنَّما كان الّذي أوتيتُ وحياً أوحى الله إليّ» الحديث‏.‏

وأطلق على إظهار المعجزة لديهم بالإيتاء في حكاية كلامهم إذ قيل‏:‏ ‏{‏حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله‏}‏ لأنّ المعجزة لمّا كانت لإقناعهم بصدق الرّسول عليه الصّلاة والسلام أشبهت الشّيء المعطى لهم‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏مثل ما أوتى رسل الله‏}‏ مثل ما أتَى اللَّهُ الرّسلَ من المعجزات الّتي أظهروها لأقوامهم‏.‏ فمرادهم الرّسل الّذين بَلغتهم أخبارهم‏.‏ وقيل‏:‏ قائل ذلك فريق من كبراء المشركين بمكّة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يريد كل امرئ منهم أن يُؤتى صحفاً مُنَشَّرة‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 52‏]‏‏.‏ روي أنّ الوليد بن المغيرة، قال للنّبيء صلى الله عليه وسلم لو كانت النّبوءةُ لكنتُ أولى بها منكَ لأنّي أكبرُ منك سِنّا وأكثر مالاً وولداً؛ وأنّ أبا جهل قال‏:‏ زاحمَنا ‏(‏يعني بني مخزوم‏)‏ بنو عبد مناف في الشّرف، حتّى إذا صرنا كفَرسَيْ رِهاننٍ قالوا‏:‏ مِنّا نبيء يُوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه‏.‏ فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين، وعلى هذا يكون المراد حتّى يأتينا وَحْي كما يأتي الرّسلَ‏.‏

أو يكون المراد برسل الله جميع الرّسل، فعدلوا عن أن يقولوا مثل ما أوتي محمّد صلى الله عليه وسلم لأنّهم لا يؤمنون بأنّه يأتيه وحي‏.‏

ومعنى ‏{‏نؤتى‏}‏ على هذا الوجه نعطى مثل ما أعطي الرّسل، وهو الوحي‏.‏ أو أرادوا برسل الله محمّداً صلى الله عليه وسلم فعبّروا عنه بصيغة الجمع تعريضاً، كما يقال‏:‏ إنّ ناساً يقولون كذا، والمراد شخص معيّن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ ونحوه، ويكون إطلاقهم عليه‏:‏ ‏{‏رسل الله‏}‏ تهكّماً به صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا يأيُّها الذي نُزِّل عليه الذكر إنَّك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏

اعتراض للردّ على قولهم‏:‏ ‏{‏حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله‏}‏ على كلا الاحتمالين في تفسير قولهم ذلك‏.‏

فعلى الوَجه الأوّل‏:‏ في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله‏}‏ يكون قوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ ردّاً بأنّ الله أعلم بالمعجزات اللائقة بالقوم المرسَل إليهم؛ فتكون ‏{‏حيث‏}‏ مجازاً في المكان الاعتباري للمعجزة، وهم القوم الذين يُظهرها أحد منهم، جُعلوا كأنَّهم مكان لظهور المعجزة‏.‏ والرّسالات مطلقة على المعجزات لأنَّها شبيهة برسالة يرسلها الله إلى النّاس، وقريب من هذا قول علماء الكلام‏:‏ وجهُ دلالة المعجزة على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّ المعجزة قائمة مقام قول الله‏:‏ «صدق هذا الرسولُ فيما أخبر به عني» بأمارةِ أنِّي أخرق العادة دليلاً على تصديقه‏.‏

وعلى الوجه الثّاني‏:‏ في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله‏}‏، يكون قوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ ردّاً عليهم بأنّ الرّسالة لا تُعطى بسؤال سائِلها، مع التّعريض بأنّ أمثالهم ليسوا بأهل لها، فما صْدَقُ ‏{‏حيث‏}‏ الشّخصُ الّذي اصطفاه الله لرسالته‏.‏

و ‏{‏حيث‏}‏ هنا اسم دالّ على المكان مستعارة للمبعوث بالرّسالة، بناء على تشبيه الرّسالة بالوديعة الموضوعة بمكان أمانة، على طريقة الاستعارة المكنيّة‏.‏ وإثباتُ المكان تخييل، وهو استعارة أخرى مصرّحة بتشبيه الرّسل بمكان إقامة الرّسالة‏.‏ وليست ‏{‏حيث‏}‏ هنا ظرفاً بل هي اسم للمكان مجرّد عن الظرفية، لأنّ ‏{‏حيث‏}‏ ظرف متصرّف، على رأي المحقّقين من النّحاة، فهي هنا في محلّ نصب بنزع الخافض وهو الباء، لأن ‏{‏أعلم‏}‏ اسم تفضيل لا ينصب المفعول، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 117‏]‏ كما تقدّم آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏يجعل رسالته‏}‏ صفة ل ‏{‏حيث‏}‏ إذا كانت ‏{‏حيث‏}‏ مجرّدة عن الظرفية‏.‏ ويتعيّن أن يكون رابط جملة الصّفة بالموصوف محذوفاً، والتّقدير‏:‏ حيث يجعل فيه رسالاته‏.‏

وقد أفادت الآية‏:‏ أنّ الرّسالة ليست ممّا يُنال بالأماني ولا بالتشهّي، ولكن الله يعلم مَن يصلح لها ومن لا يصلح، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله، فإنّ النّفوس متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله، فلا تصلح للرّسالة إلاّ نفس خُلقت قريبة من النّفوس الملكيّة، بعيدة عن رذائل الحيوانية، سليمة من الأدواء القلبية‏.‏

فالآية دالّة على أنّ الرّسول يُخلق خِلقة مناسبة لمراد الله من إرساله، والله حين خلقه عالم بأنّه سَيرسله، وقد يخلق الله نفوساً صالحة للرّسالة ولا تكون حكمةٌ في إرسال أربابها، فالاستعداد مهيِّيء لاصطفاء الله تعالى، وليس موجِبا له، وذلك معنى قول بعض المتكلّمين‏:‏ إنّ الاستعداد الذّاتي ليس بموجب للرّسالة خلافاً للفلاسفة، ولعلّ مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلّمين‏.‏ وقد أشار ابنُ سينا في «الإشارات» إلى شيء من هذا في النّمط التّاسع‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ بيان لعظيم مقدار النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم، كما قيل في المثل «ليس بعُشِّككِ فادْرُجي»‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏رسالاته‏}‏ بالجمع وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم بالإفراد ولمّا كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد‏.‏

‏{‏سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ‏}‏‏.‏

استئناف ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏ليمكروا فيها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 123‏]‏ وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله‏}‏‏.‏

فالمراد بالّذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكّة بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يمكرون‏}‏ فإنّ صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السّابقة، وذكرهم ب ‏{‏الّذين أجرموا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أنّ يقال‏:‏ سيصيبهم صغار، وإنَّما خولف مقتضى الظاهر للإتيان بالموصول حتّى يوميء إلى علّة بناء الخبر على الصّلة، أي إنَّما أصابهم صغار وعذاب لإجرامهم‏.‏

والصّغَار بفتح الصّاد الذلّ، وهو مشتقّ من الصِّغَر، وهو القماءة ونقصان الشيء عن مقدار أمثاله‏.‏

وقد جعل الله عقابهم ذلاّ وعذاباً‏:‏ ليناسب كِبْرهم وعُتُوّهم وعصيانهم الله تعالى‏.‏ والصّغار والعذاب يحصلان لهم في الدّنيا بالهزيمة وزوال السّيادة وعذاب القتل والأسر والخوف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل هل تربصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين ونحن نتربّص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 52‏]‏ وقد حصل الأمران يوم بدر ويوم أحُد، فهلكت سادة المشركين، وفي الآخرة بإهانتهم بين أهل المحشر، وعذابهم في جهنم‏.‏

ومعنى ‏{‏عند الله‏}‏ أنَّه صغار مقدّر عند الله، فهو صغار ثابت محقّق، لأنّ الشّيء الّذي يجعله الله تعالى يحصل أثره عند النّاس كلّهم، لأنَّه تكوين لا يفارق صاحبه، كما ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏ إنّ الله إذا أحبّ عبداً أمر جبريل فأحبّه ثمّ أمر الملائكة فأحبّوه ثمّ يوضع له القبول عند أهل الأرض ‏"‏ فلا حاجة إلى تقدير ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏، ولا إلى جعل العندية بمعنى الحصول في الآخرة كما درج عليه كثير من المفسّرين‏.‏

والباء في‏:‏ ‏{‏بما كانوا يمكرون‏}‏ سببيّة‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ مصدريّة‏:‏ أي بسبب مكرهم، أي فعلهم المكر، أو موصولة‏:‏ أي بسبب الّذي كانوا يمكرونه، على أنّ المراد بالمكر الاسم، فيقدر عائدٌ منصوبٌ هو مفعول به محذوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

الفاء مُرتِّبة الجملةَ الّتي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله‏:‏ ‏{‏أو من كان ميّتاً فأحييناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ وما ترتَّب عليه من التّفاريع والاعتراض‏.‏ وهذا التّفريع إبطال لتعلّلاتهم بعلّة ‏{‏حتى نوتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، وأنّ الله منعهم ما علّقوا إيمانَهم على حصوله، فتفرّع على ذلك بيان السّبب المؤثّر بالحقيقة إيمانَ المؤمن وكُفْرَ الكافر، وهو‏:‏ هداية الله المؤمنَ، وإضلالُه الكافرَ، فذلك حقيقة التّأثير، دون الأسباب الظّاهرة، فيعرف من ذلك أنّ أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا، حتّى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية حتّى يَروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشَرْنا عليهم كلّ شيء قِبَلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏‏.‏

والهدى إنَّما يتعلّق بالأمور النّافعة‏:‏ لأنّ حقيقته إصابة الطريق الموصّل للمكان المقصود، ومجازَه رشاد العقل، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلِّقه هنا لظهور أنَّه الهدى للإسلام، مع قرينة قوله‏:‏ ‏{‏يشرح صدره للإسلام‏}‏، وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏فاهْدُوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏ فهو تهكّم‏.‏ والضّلال إنَّما يكون في أحوال مضرّة لأنّ حقيقته خطأ الطّريق المطلوب، فلذلك كان مُشعراً بالضرّ وإن لم يذكر متعلّقه، فهو هنا الاتّصاف بالكفر لأنّ فيه إضاعة خير الإسلام، فهو كالضّلال عن المطلوب، وإن كان الضّالّ غير طالب للإسلام، لكنّه بحيث لو استقبَلَ من أمره ما استدبَر لطلبه‏.‏

والشّرْح حقيقته شقّ اللّحم، والشّريحة القطعة من اللّحم تشقّ حتّى ترقّق ليقع شَيُّها‏.‏ واستعمل الشّرح في كلامهم مجازاً في البيان والكشف، واستعمل أيضاً مجازاً في انجلاء الأمر، ويقين النّفس به، وسكون البال للأمر، بحيث لا يتردّد فيه ولا يغتمّ منه، وهو أظهر التّفسيرين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والصّدر مراد به الباطن، مجازاً في الفهم والعقل بعلاقة الحلول، فمعنى ‏{‏يشرح صدره‏}‏ يجعل لنفسه وعقله استعداداً وقبولاً لتحصيل الإسلام، ويُوطّنه لذلك حتّى يسكن إليه ويرضى به، فلذلك يشبَّه بالشّرح، والحاصل للنّفس يسمّى انشراحاً، يقال‏:‏ لم تنشرح نفسي لكذا، وانشرحتْ لكذا‏.‏ وإذا حلّ نور التّوفيق في القلب كان القلب كالمتّسع، لأنّ الأنوار توسّع مناظر الأشياء‏.‏ روى الطّبري وغيره، عن ابن مسعود‏:‏ «أنّ ناساً قالوا‏:‏ يا رسول الله كيف يشرحُ الله صدره للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيه النّور فينفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف بها قال الإنابة إلى دار الخلود، والتنحّي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت»‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ومن يرد أن يضله‏}‏ من يُرد دوام ضَلاله بالكفر، أو من يُرد أن يضلّه عن الاهتداء إلى الإسلام، فالمراد ضلال مستقبل، إمَّا بمعنى دَوام الضلال الماضي، وإمَّا بمعنى ضلال عن قبول الإسلام، وليس المراد أن يضلّه بكفره القديم، لأنّ ذلك قد مضى وتقرّر‏.‏

والضيِّقُ بتشديد الياء بوزن فَيْعِل مبالغة في وصف الشّيء بالضيّق، يقال ضاق ضِيقاً بكسر الضاد وضَيقاً بفتحها والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح؛ ويقال بتخفيف الياء بوزن فَعْل، وذلك مثل مَيِّت ومَيْت، وهما وإن اختلفت زنتهما، وكانت زنة فَيْعِل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فَعْل، فإنّ الاستعمال سوّى بينهما على الأصحّ‏.‏ والأظهر أنّ أصل ضيِّق‏:‏ بالتخفيف وصف بالمصدر، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف‏.‏ وقرئ بهما في هذه الآية، فقرأها الجمهور‏:‏ بتشديد الياء، وابن كثير‏:‏ بتخفيفها‏.‏ وقد استعير الضيِّق لضدّ ما استعير له الشّرح فأريد به الّذي لا يستعدّ لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه، بحيث يكون مضطرب البال إذا عُرض عليه الإسلام، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حصرت صدورهم‏}‏ وتقدّم في سورة النّساء ‏(‏90‏)‏‏.‏

والحَرِج بكسر الراء صفة مشبّهة من قولهم‏:‏ حَرِج الشّيء حرَجاً، من باب فرح، بمعنى ضاق ضيقاً شديداً، فهو كقولهم‏:‏ دَنِف، وقَمِن، وفَرِق، وحَذِر، وكذلك قرأه نافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، وأمّا الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة، فهو كقولهم‏:‏ رجل دَنَف بفتح النّون وفَرَد بفتح الراء‏.‏

وإتْباع الضيِّق بالحرج‏:‏ لتأكيد معنى الضيق، لأنّ في الحرج من معنى شدّة الضّيق ما ليس في ضيق‏.‏ والمعنى يجعل صدره غير متّسع لقبول الإسلام، بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ يشرح صدره للإسلام‏}‏‏.‏ وزاد حالة المضلَّل عن الإسلام تبيينا بالتّمثيل، فقال‏:‏ ‏{‏كأنما يصعد في السماء‏}‏‏.‏

قرأه الجمهور‏:‏ ‏{‏يصّعَّد‏}‏ بتشديد الصاد وتشديد العين على أنَّه يَتفعَّل من الصعود، أي بتكلّف الصعود، فقلبت تاء التفعّل صاداً لأنّ التاء شبيهة بحروف الإطباق، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلباً مطّرداً ثمّ تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التّخفيف بالإدغام، فتدغم في أحد أحرف الإطباق، كما هنا، فإنَّه أريد تخفيف أحد الحروف الثّلاثة المتحرّكة المتوالية من ‏(‏يَتصعّد‏)‏، فسُكنت التاء ثمّ أدغمت في الصّاد إدغام المقارب للتخفيف‏.‏ وقرأه ابن كثير‏:‏ ‏{‏يَصْعَد‏}‏ بسكون الصّاد وفتح العين، مخفّفاً‏.‏ وقرأه أبو بكر، عن عاصم‏:‏ ‏{‏يصّاعد‏}‏ بتشديد الصّاد بعدها ألف وأصله يتصاعد‏.‏

وجملة ‏{‏كأنما يصعد‏}‏ في موضع الحال من ضمير‏:‏ ‏{‏صدْرَه‏}‏ أو من صَدره، مُثِّل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه، فيتأمل في دعوة الإسلام، بحال الصّاعد، فإنّ الصّاعد يضيق تنفّسه في الصّعود، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيَّلة، لأنّ الصّعود في السّماء غير واقع‏.‏

والسّماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف، ويجوز أن يكون السّماء أطلق على الجوّ الّذي يعلو الأرض‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ «لا يكون السّماء المُظلةَ للأرض، ولكن كما قال سيبويه القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعداً» أراد أبو عليّ الاستظهار بكلام سيبويه على أنّ اسم السّماء يقال للفضاء الذّاهب في ارتفاع ‏(‏وليست عبارة سيبويه تفسيراً للآية‏)‏‏.‏

وحرف ‏{‏في‏}‏ يجوز أن يكون بمعنى ‏(‏إلى‏)‏، ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية‏:‏ إمَّا بمعنى كأنّه بلغ السّماء وأخذ يصعد في منازلها، فتكون هيئة تخييلية، وإمّا على تأويل السّماء بمعنى الجوّ‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏ تذييل للتي قبلها، فلذلك فصلت‏.‏

والرجس‏:‏ الخبث والفساد، ويطلق على الخبث المعنوي والنّفسي‏.‏ والمراد هنا خبث النّفس وهو رجس الشّرك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏ أي مرضاً في قلوبهم زائداً على مرض قلوبهم السّابق، أي أرسخت المرض في قلوبهم، وتقدّم في سورة المائدة ‏(‏90‏)‏ ‏{‏إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان‏}‏ فالرجس يعمّ سائر الخباثات النّفسيّة، الشّاملة لضيق الصّدر وحرجه، وبهذا العموم كان تذييلاً، فليس خاصّا بضيق الصدر حتّى يكون من وضع المظهر موضع المضمر‏.‏

وقوله‏:‏ كذلك‏}‏ نائب عن المفعول المطلق المراد به التّشبيه والمعنى‏:‏ يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون جَعْلا كهذا الضيق والحرج الشّديد الّذي جعله في صدور الّذين لا يؤمنون‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على الذين لا يؤمنون‏}‏ تفيد تمكّن الرجس من الكافرين، فالعُلاوة مجاز في التمكّن، مثل‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ والمراد تمكّنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم‏.‏ وجيء بالمضارع في ‏{‏يَجعل‏}‏ لإفادة التّجدّد في المستقبل، أي هذه سنّة الله في كلّ من ينصرف عن الإيمان، ويُعرض عنه‏.‏

و ‏{‏الّذين لا يؤمنون‏}‏ مَوصول يومئ إلى علّة الخبر، أي يجعل الله الرجس متمكّناً منهم لأنَّهم يعرضون عن تلقّيه بإنصاف، فيجعل الله قلوبهم متزائدة بالقساوة‏.‏ والموصول يعمّ كلّ من يُعرض عن الإيمان، فيشمل المشركين المخبر عنهم، ويشمل غيرهم من كلّ من يُدعى إلى الإسلام فيُعرض عنه، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم‏.‏ وبهذا العموم صارت الجملة تذييلاً، وصار الإتيان بالموصول جارياً على مقتضى الظاهر، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ إلى آخِرها، لأنّ هذا تمثيل لحال هدي القرآن بالصّراط المستقيم الّذي لا يجهد متّبعه، فهذا ضدّ لحال التّمثيل في قوله‏:‏ ‏{‏كأنَّما يصّعَّد في السَّماء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وتمثيل الإسلام بالصّراط المستقيم يتضمّن تمثيل المسلم بالسّالك صراطاً مستقيماً، فيفيد توضيحاً لقوله‏:‏ ‏{‏يشرح صدره للإسلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وعطفت هذه الجملة مع أنها بمنزلة بيان الجملة التي قبلها لتكون بالعطف مقصودة بالإخبار‏.‏ وهو اقبال على النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هَذا‏}‏ إلى حاضر في الذهن وهو دين الإسلام‏.‏ والمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏يشرح صدره للإسلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏ والصّراط حقيقته الطّريق، وهو هنا مستعار للعمل الموصل إلى رضى الله تعالى‏.‏ وإضافته إلى الربّ لتعظيم شأن المضاف، فيعلم أنَّه خير صراط‏.‏ وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول تشريف للمضاف إليه، وترضية للرّسول صلى الله عليه وسلم بما في هذا السَّنن من بقاء بعض النّاس غير متّبعين دينه‏.‏

والمستقيم حقيقته السّالم من العوج، وهو مستعار للصّواب لسلامته من الخطأ، أي سَنَن الله الموافق للحكمة والّذي لا يتخلّف ولا يعطّله شيء‏.‏ ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الحسّ وهو القرآن، لأنَّه مسموع كقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏، فيكون الصّراط المستقيم مستعاراً لما يُبلِّغ إلى المقصود النّافع، كقوله‏:‏ ‏{‏وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوا ولا تتَّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏ ومستقيماً حال من «صراط» مؤكّدة لمعنى إضافته إلى الله‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قد فَصّلْنا الآيات‏}‏ استئناف وفذلكة لما تقدم‏.‏ والمراد بالآيات آيات القرآن‏.‏ ومن رشاقة لفظ ‏{‏الآيات‏}‏ هنا أن فيه تورية بآيات الطريق التي يهتدي بها السائر‏.‏

واللاّم في‏:‏ ‏{‏لقوم يذكرون‏}‏ للعلّة، أي فصّلنا الآيات لأجلهم لأنَّهم الّذين ينتفعون بتفصيلها‏.‏ والمراد بالقوم المسلمون، لأنَّهم الّذين أفادتهم الآيات وتذكّروا بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

الضّمير في‏:‏ ‏{‏لهم دار السلام‏}‏ عائد إلى ‏{‏قوم يذّكَّرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏‏.‏

والجملة إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً‏:‏ لأنّ الثّناء عليهم بأنّهم فُصّلت لهم الآيات ويتذكّرون بها يثير سؤال مَن يسأل عن أثر تبيين الآيَات لهم وتذكُّرهم بها، فقيل‏:‏ ‏{‏لهم دار السلام‏}‏‏.‏

وإمّا صفة‏:‏ ‏{‏لقوم يذّكّرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 126‏]‏‏.‏ وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكّرون لا لغيرهم‏.‏

والدّارُ‏:‏ مكان الحلول والإقامة، ترادف أو تقارب المحلّ من الحُلول، وهو مؤنّث تقديراً فيصغَّر على دويرة‏.‏ والدّار مشتقّة من فعل دار يدور لكثرة دوران أهلها، ويقال لها‏:‏ دارة، ولكن المشهور في الدارة أنّها الأرض الواسعة بين جبال‏.‏

والسّلام‏:‏ الأمان، والمراد به هنا الأمان الكامل الّذي لا يعتري صاحِبه شيء ممّا يُخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها، فيجوز أن يراد بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها، لأنَّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس، فتمحّضت للنَّعيم الملائم، وقيل‏:‏ السّلام، اسم من أسماء الله تعالى، أي دار الله تعظيماً لها كما يقال للكعبة‏:‏ بيت الله، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه، كقول النّابغة‏:‏

كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنىً

عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار

و ‏{‏عند‏}‏ مستعارة للقرب الاعتباري، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عَقِبه‏:‏ ‏{‏وهو وليّهم‏}‏، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يُجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم، وأنَّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر، كما يقال‏:‏ إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقاً للوعد‏.‏ والعدول عن إضافة ‏{‏عند‏}‏ لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر‏:‏ لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة مَن هو مولاهم‏.‏ فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وعطف على جملة‏:‏ ‏{‏لهم دار السلام‏}‏ جملة‏:‏ ‏{‏وهو وليهم‏}‏ تعميماً لولاية الله إيَّاهم في جميع شؤونهم، لأنَّها من تمام المنّة‏.‏ والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏لهم دار السلام‏}‏، من مفهوم الفعل، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون، فتكون الباء سببيّة، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام، أو الباء للعوض‏:‏ أي لهم ذلك جَزاء بأعمالهم، وتكون جملة‏:‏ ‏{‏وهو وليهم‏}‏ معترضة بين الخبر ومتعلِّقه، ويجوز أن يَكون‏:‏ ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ متعلِّقا ب ‏{‏وليّهم‏}‏ أي وهو ناصرهم، والباء للسّببيّه‏:‏ أي بسبب أعمالهم تولاّهم، أو الباء للملابسة، ويكون‏:‏ ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ مراداً به جزاء أعمالهم، على حذف مضاف دلّ عليه السّياق‏.‏

وتعريف المسند بالإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏وليهم‏}‏ أفاد الإعلام بأنّ الله وليّ القوم المتذكّرين، ليعلموا عظم هذه المنّة فيشكروها، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم‏.‏

وذلك أنّ تعريف المسند بالإضافه يخالف طريقة تعريفه بغير الإضافة، من طرق التّعريف، لأنّ التّعريف بالإضافة أضعف مراتب التّعريف، حتّى أنَّه قد يقرب من التّنكير على ما ذكره المُحقّقون‏:‏ من أنّ أصل وضع الإضافة على اعتبار تعريف العهد، فلا يُقال‏:‏ غلام زيد، إلاّ لغلام معهود بين المتكلّم والمخاطب بتلك النّسبة، ولكن الإضافة قد تخرج عن ذلك في الاستعمال فتجيء بمنزلة النكرة المخصوصة بالوصف، فتقول‏:‏ أتاني غلامُ زيد بكتاب منه وأنت تريد غلاماً له غير معيَّن عند المخاطب، فيصير المعرّف بالإضافة حينئذ كالمعرّف بلام الجنس، أي يفيد تعريفاً يميّز الجنس من بين سائر الأجناس، فالتّعريف بالإضافة يأتي لما يأتي له التّعريف باللام‏.‏ ولهذا لم يكن في قوله‏:‏ ‏{‏وهو وليهم‏}‏ قَصْر ولا إفاده حُكم معلوم على شيء معلوم‏.‏ وممّا يزيدك يقينا بهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏ فإنّ عطف‏:‏ ‏{‏وأنّ الكافرين لا مولى لهم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏بأنّ الله مولى الذين آمنوا‏}‏ أفاد أنّ المراد بالأوّل إفادة ولاية الله للّذين آمنوا لا الإعلام بأنّ من عرف بأنَّه مولى الّذين آمنوا هو الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏‏}‏

لمّا ذكر ثواب القوم الّذين يتذّكرون بالآيات، وهو ثواب دار السّلام، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الّذين لا يتذكّرون، وهو جزاء الآخرة أيضاً، فجملة‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم‏}‏ إلخ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏لهم دار السّلام عند ربّهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 127‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وللآخرين النّار مثواهم خالدين فيها‏.‏ وقد صُوّر هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر، ثمّ أُفضي إلى غاية ذلك الحساب، وهو خلودهم في النّار‏.‏

وانتصب‏:‏ ‏{‏يومَ‏}‏ على المفعول به لفعل محذوف تقديره‏:‏ اذْكُر، على طريقة نظائره في القرآن، أو انتصب على الظرفيّة لفعل القول المقدّر‏.‏

والضّمير المنصوب ب ‏{‏نحشرهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين آجرموا صغار عند الله، أو إلى الذين لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏ وهؤلاء هم مقابل الّذين يتذكّرون، فإنّ جماعة المسلمين يُعتَبرون مخاطبين لأنّهم فريق واحد مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ويعتبر المشركون فريقاً مبائناً لهم بعيداً عنهم، فيتحدّث عنهم بضمير الغيبة، فالمراد المشركون الّذين ماتوا على الشّرك وأُكّد ب ‏{‏جميعاً‏}‏ ليعمّ كلّ المشركين، وسادتهم، وشياطينهم، وسائر عُلَقهم‏.‏

ويجوز أن يعود الضّمير إلى الشّياطين وأوليائهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ إلخ‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نحشرهم‏}‏ بنون العظمة على الالتفات‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم، ورَوْح عن يعقوب بياء الغيبة ولمّا أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعيّن أنّ النداء في قوله‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن‏}‏ من قِبل الله تعالى، فتعيّن لذلك إضمار قول صادر من المتكلّم، أي نقول‏:‏ يا معشر الجنّ، لأنّ النّداء لا يكون إلاّ قولاً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن‏}‏ إلخ مقول قول محذوف يدلّ عليه أسلوب الكلام، والتّقدير‏:‏ نقول أو قائلين‏.‏

والمعشر‏:‏ الجماعة الّذين أمرهم وشأنهم واحد، بحيث تجمعهم صفة أو عمل، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه‏.‏ وهو يُجمع على معاشر أيضاً، وهو بمعناه، وهو مشتقّ من المعاشرة والمخالطة‏.‏ والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبيّن الصّفة الّتي اجتمع مسمّاه فيها، وهي هنا صفة كونهم جنّاً، ولذلك إذا عُطف على ما يضاف إليه كان على تقدير تثنية معشراً وجمْعِه‏:‏ فالتثنية نحو‏:‏ ‏{‏يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏ الآية، أي يا معشر الجنّ ويا معشر الإنس، والجمع نحو قولك‏:‏ يا معاشر العرب والعجم والبربر‏.‏

والجنّ تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجنّ‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏100‏)‏‏.‏ والمراد بالجنّ الشّياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجنّ، والإنس تقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏شياطين الإنس والجنّ‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏112‏)‏‏.‏

والاستكثار‏:‏ شدّة الإكثار‏.‏ فالسّين والتّاء فيه للمبالغة مثل الاستسلام والاستخداع والاستكبار، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتّخذِ كثيرُه، يقال‏:‏ استكثر من النَّعم أو من المال، أي أكثر من جمعهما، واستكثر الأمير من الجند، ولا يتعدّى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الّذي بمعنى عدّ الشّيء كثيراً، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏استكثرتم من الإنس‏}‏ على حذف مضاف، تقديره‏:‏ من إضلال الإنس، أو من إغوائهم، فمعنى ‏{‏استكثرتم من الإنس‏}‏ أكثرتم من اتّخاذهم، أي من جعلهم أتباعاً لكم، أي تجاوزتم الحدّ في استهوائهم واستغوائهم، فطوّعتم منهم كثيراً جداً‏.‏

والكلام توبيخ للجنّ وإنكار، أي كان أكثر الإنس طوعاً لكم، والجنّ يشمل الشّياطين، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم‏:‏ بالوسوسة، والتخييل، والإرهاب، والمسّ، ونحو ذلك، حتّى تَوهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شؤونهم، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل وادياً قال‏:‏ «أعوذ بسَيِّد هذا الوادي، أو بربّ هذا الوادي، يعني به كبير الجنّ، أو قال‏:‏ يَا ربّ الوادي إنِّي أستجير بك» يعني سيّدَ الجنّ‏.‏ وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زَجل الجنّ‏.‏ قال الأعشى‏:‏

وبلدةٍ مثل ظَهْر التُّرس موحِشةٍ *** للجِنّ باللّيل في حَافَاتها زَجَل

وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتَّبعوهم، وأطاعوهم، وأفرطوا في مرضاتهم، ولم يسمعوا مَن يدعوهم إلى نبذ متابعتهم، كما يدلّ عليه قوله الآتي‏:‏ ‏{‏يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏ فإنَّه تدرّج في التّوبيخ وقطععِ المعذرة‏.‏

والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ‏:‏ أي الموالون لهم، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم‏.‏ وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّاً لها ‏{‏اللَّهُ ولي الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم رسل منكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وشَهِدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين‏}‏‏.‏

و ‏{‏من الإنس‏}‏ بيان للأولياء‏.‏ وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏استمتع بعضنا ببعض‏}‏ انتفع وحَصّل شهوته وملائِمَهُ‏:‏ أي استمتع الجنّ بالإنس، وانتفع الإنس بالجنّ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنَّه بعض مجموع الفريقين‏.‏ وإنَّما قالوا‏:‏ استمتع بعضنا ببعض، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ، لأنَّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعاً بصاحبه، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقراراً بالحقّ، وإخلاصاً لأوليائهم، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المُغوين يُعرّض بتوبيخ المغوَيْن بفتح الواو‏.‏ فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّداً على الله، ولا استخفافاً بأمره، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين، وهي المراد بالاستمتاع‏.‏

ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء‏.‏ وكون كلامهم دخيلاً في المخاطبة، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنَّها قول آخر عَرض في ذلك اليوم‏.‏

وجيء في حكاية قولهم بفعل ‏{‏وقال أولياؤهم‏}‏ مع أنّه مستقبل من أجللِ قوله‏:‏ ‏{‏يحشرهم‏}‏ تنبيها على تحقيق وقوعه، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه، وأنّه واقع لا محالة، إذ لا يكون بعضه محقّقاً وبعضه دون ذلك‏.‏

واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل‏:‏ بتيسير شهواتهم، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم، وسلامتهم من بطشتهم‏.‏ واستمتاع الجنّ بالإنس‏:‏ هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة، وإعانتُهم على إضلال النّاس، والوقوفُ في وجه دعاة الخير، وقطع سبيل الصّلاح، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ استسلام لله، أي‏:‏ انقضَى زمن الإمهال، وبلغْنا الأجلَ الذي أجلَّت لنا للوقوع في قبضتك، فسُدّت الآن دوننا المسالكُ فلا نجد مفرّاً‏.‏ وفي الكلام تحسّر وندامة‏.‏ عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئاً، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوّهم، ومَحين حِين أن يَلْقَوا جزاء أعمالهم كقوله‏:‏ ‏{‏ووجد الله عنده فوفّاه حسابه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وقد أفادت الآية‏:‏ أنّ الجنّ المخاطبين قد أُفحموا، فلم يجدوا جواباً، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذٍ ‏{‏إذ تَبرّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قال النار مثواكم‏}‏ فصلت عن الّتي قبلها على طريقة القول في المحاورة، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

وضمير الخطاب في قوله‏:‏ النار مثواكم‏}‏ موجَّه إلى الإنس فإنَّهم المقصود من الآية، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفاً ولا ضراً ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النّار التي كنتم بها تكذّبون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41، 42‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتمَّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجِنّة والنّاسسِ أجمعين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏‏.‏

ومجيء القول بصيغة الماضي‏:‏ للتّنبيه على تحقيق وقوعه وهو مستقبل بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يحشرهم‏}‏ كما تقدّم‏.‏ وإسناده إلى الغائب نظرٌ لما وقع في كلام الأولياء‏:‏ ‏{‏ربنا استمتع‏}‏ إلخ‏.‏

والمثوى‏:‏ اسم مكان من ثَوى بالمكان إذا أقام به إقامةَ سكنى أو إطالة مكث، وقد بيّن الثّواء بالخلود بقوله‏:‏ ‏{‏حالدين فيها‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حالدين فيها‏}‏ هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محالة، لأنَّه منصوب على الحال من ضمير مثواكم، فلا بدّ أن يتعلّق بما قبله‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ فظاهر النظم أنّه من تمام ما يقال لهم‏.‏ لأنّ الأصل في الاستثناء أن يكون إخراجاً ممّا قبله من الكلام‏.‏ ويجوز أن يكون من مخاطبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وقع اعتراضاً بين ما قصّه عليه من حال المشركين وأوليائهم يوم الحشر، وبين قوله له‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ ويكون الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ على التّأويلين استثناء إمَّا من عموم الأزمنة الّتي دلّ عليها قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبَد يعمّ الأزمان كلّها، ف ‏(‏ما‏)‏ ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مَصدر، أي إلاّ وقت مشيئة الله إزالة خلودكم، وإمَّا من عموم الخالدين الّذي في ضمير ‏{‏خالدين‏}‏ أي إلاّ فريقاً شاء الله أن لا يخلدوا في النّار‏.‏

وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسّرين، من حيثُ ما تقرّر في الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة؛ أنّ المشركين لا يُغفر لهم وأنَّهم مخلّدون في النّار بدون استثناء فريق ولا زمان‏.‏

وقد أحصَيْتُ لهم عشرة تأويلات، بعضها لا يتمّ، وبعضها بعيد إذا جُعل قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر، ولا يستقيم منها إلاّ واحد، إذا جعل الاستثناء معترَضاً بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النّبي صلى الله عليه وسلم فيكون هذا الاعتراض خطاباً للمشركين الأحياءِ الّذين يسمعون التّهديد، إعذاراً لهم أن يسلموا، فتكون ‏(‏ما‏)‏ مصدرية غير ظرفية‏:‏ أي إلاّ مشيئة الله عدمَ خلودهم، أي حالَ مشيئته‏.‏ وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم، ويكون هذا بياناً وتحقيقاً للمنقول عن ابن عبّاس‏:‏ استثنى الله قوماً سبق في علمه أنَّهم يُسلمون‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم‏.‏

ولك أن تجعل ‏(‏ما‏)‏ على هذا الوجه موصولة، فإنَّها قد تستعمل للعاقل بكثرة‏.‏ وإذا جعل قوله‏:‏ ‏{‏خالدين‏}‏ من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية‏:‏ أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولاَ حالةٍ، وإنَّما هو كناية، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى، مختاراً لا مكره له عليه، إظهاراً لتمام القدرة ومحض الإرادة، كأنَّه يقول‏:‏ لو شئت لأبطلتُ ذلك‏.‏ وقد يعْضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله‏:‏ ‏{‏فأمَّا الذين شَقُوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعَّال لما يريد وأمّا الذين سعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106، 108‏]‏ فانظر كيف عقّب قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربّك‏}‏ في عقاب أهل الشّقاوة بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ ربّك فعَّال لما يريد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ وكيف عقَّب قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربّك‏}‏ في نعيم أهل السّعادة بقوله‏:‏ ‏{‏عَطاء غير مجذوذ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏ فأبْطل ظاهر الاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ فهذا معنى الكناية بالاستثناء، ثمّ المصير بعد ذلك إلى الأدلّة الدّالة على أنّ خلود المشركين غيرُ مخصوص بزمن ولا بحال‏.‏

ويَكونُ هذا الاستثناء من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ تذييل، والخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها إلا ما شاء الله‏}‏ من بقية المقول لأولياء الجنّ في الحشر كان قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ جملة معترضة بين الجمل المقولة، لبيان أنّ ما رتّبه الله على الشرّك من الخلود رتّبه بحكمته وعِلْمه، وإن كان قوله‏:‏ ‏{‏خالدين‏}‏ إلخ كلاماً مستقلاً معترضاً كان قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ تذييلاً للاعتراض، وتأكيداً للمقصود من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطاً بالموافاة على الشّرك‏.‏ وجَعْل النّجاة من ذلك الخلودِ منوطة بالإيمان‏.‏

والحكيم‏:‏ هو الّذي يضع الأشياء في مناسباتها، والأسباب لمسبّباتها‏.‏ والعليم‏:‏ الّذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقّة للثّواب والعقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

وهو من تمام الاعتراض، أو من تمام التذييل، على ما تقدّم من الاحتمالين، الواو للحال‏:‏ اعتراضيّة، كما تقدّم، أو للعطف على قوله‏:‏ ‏{‏إنّ ربَّك حكيم عليم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 128‏]‏‏.‏

والإشارة إلى التولية المأخوذة من‏:‏ ‏{‏نولى‏}‏، وجاء اسم الإشارة بالتّذكير لأنّ تأنيث التولية لفظي لا حقيقي، فيجوز في إشارته مَا جاز في فِعله الرافع للظّاهر، والمعنى‏:‏ وكما ولّينا ما بين هؤلاء المشركين وبين أوليائهم نُولّي بين الظّالمين كلّهم بعضِهم مع بعض‏.‏

والتولية يجيء من الولاء ومن الوِلاية، لأنّ كليهما يقال في فعله المتعدّي‏:‏ ولَّى، بمعنى جعل ولياً، فهو من باب أعطى يتعدّى إلى مفعولين، كذا فسّروه، وظاهر كلامهم أنّه يقال‏:‏ ولّيت ضَبَّة تميماً إذا حالفتَ بينهم، وذلك أنَّه يقال‏:‏ تَولَّتْ ضبةُ تميماً بمعنى حالفْتهم، فإذا عدّي الفعل بالتضعيف قيل‏:‏ ولَّيت ضَبة تميماً، فهو من قبيل قوله‏:‏ ‏{‏نُولِّه ما تولّى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ أي نلزمه ما ألزم نفسه فيكون معنى‏:‏ ‏{‏نولى بعض الظالمين بعضاً‏}‏ نجعل بعضهم أولياء بعض، ويكون ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقال أولياؤهم من الإنس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وجعَل الفريقين ظالمين لأنّ الذي يتولّى قوماً يصير منهم، فإذا جعل الله فريقاً أولياء للظّالمين فقد جعلهم ظالمين بالأخارة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النّار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 113‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏بعضهم أولياء بعض ومَن يتولَّهم منكم فإنَّه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ ولَّى، بمعنى جعل والياً، فيتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى أيضاً، يقال‏:‏ وَلَّى عُمَرُ أبا عبيدة الشّام، كما يقال‏:‏ أولاه، لأنَّه يقال‏:‏ وَلِي أبو عبيدة الشّامَ، ولذلك قال المفسّرون‏:‏ يجوز أن يكون معنى‏:‏ ‏{‏نولى بعض الظالمين بعضاً‏}‏ نجعل بعضَهم ولاة على بعض، أي نسلّط بعضهم على بعض، والمعنى أنّه جعل الجنّ وهم ظالمون مسلّطين على المشركين، والمشركون ظالمون، فكلّ يظلِم بمقدار سلطانه‏.‏ والمراد‏:‏ ب ‏{‏الظالمين‏}‏ في الآية المشركون، كما هو مقتضى التّشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏‏.‏

وقد تشمل الآية بطريق الإشارة كلّ ظالم، فتدلّ على أنّ الله سلّط على الظالممِ من يظلمه، وقد تأوّلها على ذلك عبد الله بن الزُبير أيَّام دَعوته بمكّة فإنَّه لمَّا بلغه أنّ عبد الملك بن مروان قَتَل عَمْراً بنَ سعيد الأشدقَ بعد أن خرج عَمرو عليه، صَعِد المنبر فقال‏:‏ «ألاَ إنّ ابن الزّرقاء يعني عبدَ الملك بن مروان؛ لأنّ مروان كان يلقّب بالأزرق وبالزرقاء لأنّه أزرق العينين قد قَتل لَطِيم الشّيطان ‏{‏وكذلك نولى بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏ ومن أجل ذلك قيل‏:‏ إنْ لم يُقلع الظّالم عن ظلمه سُلّط عليه ظالم آخر‏.‏ قال الفخر‏:‏ إنْ أراد الرّعيّةُ أن يتخلّصوا من أمير ظالم؛ فليتركوا الظّلم‏.‏ وقد قيل‏:‏

ومَا ظَالمٌ إلاّ سَيُبْلَى بظَالِم ***

وقوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ الباء للسببية، أي جزاء على استمرار شركهم‏.‏

والمقصود من الآية الاعتبار والموعظة، والتّحذير مع الاغترار بولاية الظّالمين‏.‏ وتوخي الأتباععِ صلاحَ المتبوعين‏.‏ وبيانُ سنّة من سنن الله في العالَمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود، إبطالاً لمعذرتهم، وإعلاناً بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعاً‏.‏

والهمزة في ‏{‏ألم يأتيكم‏}‏ للاستفهام التّقريري، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي، يؤتى بتقريره داخلاً على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به، كما يقال للجاني‏:‏ ألَسْت الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه، فيؤتى بالاستفهام داخلاً على نفي الشّيء المقرّر عليه، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله، ونبذ العمل الصّالح ظهرياً، والإعراض عن الإيمان، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغاً، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب‏.‏

والرّسل‏:‏ ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم‏:‏ من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذْ جاءها المرسلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏ وهم رسل الحواريين بعد عيسى‏.‏

فوَصْف الرّسل بقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ لزيادة إقامة الحجّة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون ‏(‏مِن‏)‏ اتِّصالية مثل الّتي في قولهم‏:‏ لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي، وليست للتّبعيض، فليست مثل الّتي في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلاّ من الإنس، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلاّ في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر، وجنسُ الجنّ أحَطّ من البشر لأنَّهم خلقوا من نار‏.‏

وتكون ‏(‏من‏)‏ تبعيضية، ويكون المراد بضمير‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح‏.‏ فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاماً بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ‏:‏ ‏{‏قُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآناً عجبا‏}‏

‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏ الآية، وقال في سورة الأحقاف ‏(‏30، 31‏)‏‏:‏ ‏{‏قالوا يا قَوْمنا إنَّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم‏}‏ ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله‏:‏ ‏{‏إنَّه يَراكم هو وقبيلُه من حيث لا ترونهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ فضعف قول من قال بوُجود رسل من الجنّ إلى جنسهم، ونُسب إلى الضحاك، ولذلك فقوله‏:‏ ‏{‏ألم يأتيكم‏}‏ مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ، ولم يرد عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلاً من الجنّ إلى جنسهم، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يَدْعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلاّ إلى ما يُحرّك النّظر‏.‏ فلمّا خلق الله للجنّ علماً بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجَّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم‏.‏

ومن حسن عبارات أيمّتنا أنَّهم يقولون‏:‏ الإيمان واجب على مَن بلَغَتْه الدّعوة، دون أن يقولوا‏:‏ على مَن وُجّهت إليه الدّعوة‏.‏ وطرق بلوغ الدّعوة عديدة، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّداً صلى الله عليه وسلم ولا غيرَه من الرّسل، بُعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك، ولعدم المناسبة بين الجنسين، وتعذّر تخالطهما، وعن الكلبي أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ، وقاله ابن حزم، واختاره أبو عُمر ابن عبد البرّ، وحكَى الاتِّفاق عليه‏:‏ فيكون من خصائص النّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لقدره‏.‏ والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنَّه خوض في أحوال عالَم لا يدخل تحت مُدْرَكاتنا، فإنّ الله أنبأنا بأنّ العوالم كلّها خاضعة لسلطانه‏.‏ حقيق عليها طاعته، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف‏.‏

والمقصود من الآية الّتي نتكلّم عليها إعلامُ المشركين بأنَّهم مأمورون بالتّوحيد والإسلام وأنّ أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام‏.‏ بلْهَ أتْباعهم ودهمائهم‏.‏ فذكر الجنّ مع الإنس في قوله‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس‏}‏ يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحْسيرهم على ما فرط منهم في الدّنيا من عبادة الجنّ أو الالتجاءِ إليهم، على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم وما يَعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنتَ قلتَ للنّاس اتَّخذوني وأمِّي إلهين من دون الله‏}‏

‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

والقَصّ كالقَصَص‏:‏ الإخبار، ومنه القصّة للخبر، والمعنى‏:‏ يخبرونكم الأخْبار الدالّة على وحدانيّة الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فسمّى ذلك قَصَّاً؛ لأنّ أكثره أخبار عن صفات الله تعالى وعن الرّسل وأممهم وما حلّ بهم وعن الجزاء بالنّعيم أو العذاب‏.‏ فالمراد من الآيات آيات القرآن والأقوالُ الّتي تتلى فيفهمها الجنّ بإلهام، كما تقدّم آنفاً، ويفهمها الإنس ممّن يعرف العربيّة مباشرة ومن لا يعرف العربيّة بالتّرجمة‏.‏

والإنذار‏:‏ الإخبار بما يُخِيف ويُكره، وهو ضدّ البشارة، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏119‏)‏، وهو يتعدّى إلى مفعول بنفسه وهو الملقى إليه الخبر، ويتعدّى إلى الشّيء المخبر عنه‏:‏ بالباء، وبنفسه، يقال‏:‏ أنذرته بكذا وأنذرته كَذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنذرتكم ناراً تلظّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14‏]‏، ‏{‏فقُل أنذرتكم صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏وتُنْذِرَ يومَ الجمع‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ ولمّا كان اللّقاء يوم الحشر يتضمّن خيراً لأهل الخير وشرّا لأهل الشرّ، وكان هؤلاء المخاطبون قد تمحّضوا للشرّ، جُعل إخبار الرّسل إيَّاهم بلقاء ذلك اليوم إنذاراً لأنَّه الطَّرف الّذي تحقّق فيهم من جملة إخبار الرّسل إيَّاهم ما في ذلك اليوم وشرّه‏.‏ ووصف اليوم باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏يومكم هذا‏}‏ لتهويل أمر ذلك بما يشاهد فيه، بحيث لا تحيط العبارة بوصفه، فيعدل عنها إلى الإشارة كقوله‏:‏ ‏{‏هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ومعنى قولهم‏:‏ ‏{‏شهدنا على أنفسنا‏}‏ الإقرارُ بما تضمّنه الاستفهام من إتيان الرّسل إليهم، وذلك دليل على أن دخول حرف النّفي في جملة الاستفهام ليس المقصود منه إلاّ قطع المعذرة وأنّه أمر لا يسع المسؤولَ نفيُه، فلذلك أجملوا الجواب‏:‏ ‏{‏قالوا شهدنا على أنفسنا‏}‏، أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا‏.‏

واستعملت الشّهادة في معنى الإقرار لأنّ أصل الشّهادة الإخبار عن أمر تحقّقه المخبر وبيَّنه، ومنه‏:‏ ‏{‏شهد الله أنَّه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسط‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وشهد عليه، أخبر عنه خبرَ المتثبت المتحقّق، فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏شهدنا على أنفسنا‏}‏ أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا‏.‏ ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ لاختلاف المخبر عنه في الآيتين‏.‏ وفُصِلت جملة‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ لأنَّها جارية في طريقة المحاورة‏.‏

وجملة ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قالوا شهدنا‏}‏ باعتبار كون الأولى خبراً عن تبيّن الحقيقة لهم، وعلمهم حينئذ أنَّهم عَصوا الرّسل ومَن أرسلهم‏.‏ وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك‏.‏ فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنَّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلاّ لأنَّهم غرّتهم الحياة الدّنيا، ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه‏.‏

والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم‏:‏ من اللّهو، والتّفاخر، والكبر، والعناد‏.‏ والاستخفاف بالحقائق، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل‏.‏ والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله‏.‏ فإنّ حالهم سواء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم، وتخطئة رأيهم في الدّنيا‏.‏

وسوء نظرهم في الآيات، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب‏.‏ وقد رُتّب هذا الخبرُ على الخبر الّذي قبله، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله، فأمّا الإنس فلأنَّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ، وأمّا الجنّ فلأنَّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى، فكِلا الفريقين من هؤلاء كافر، وهذا مثل ما أخبرَ الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ فانظر كيف فرّع على قولهم أنَّهم اعترفوا بذنبهم، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم، والتسميع بهم، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر‏.‏

وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء، فلا تنافي أنَّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب، إذ قالوا‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ قال رجل لابن عبّاس‏:‏ «إنِّي أجد أشياء تختلف عليّ قال اللَّهُ‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إلاّ أن قالوا واللَّهِ ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏، فقد كَتَموا‏.‏ فقال ابن عبّاس‏:‏ إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون‏:‏ تَعالوا نقل‏:‏ ما كنّا مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي، تهديد وموعظة، وعبرة بتفريط أهل الضّلالة في فائدة دعوة الرّسل، وتنبيه لجدوى إرسال الرّسل إلى الأمم ليعيد المشركون نظراً في أمرهم، ما داموا في هذه الدار، قبل يوم الحشر، ويعلموا أنّ عاقبة الإعراض عن دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم خسرى، فيتداركوا أمرهم خشية الفوات، وإنذار باقتراب نزول العذاب بهم، وإيقاظٌ للمشركين بأنّ حالهم كحال المتحدّث عنهم إذا ماتوا على شركهم‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى مذكور في الكلام السّابق، وهو أقرب مذكور، كما هو شأن الإشارة إلى غير مَحسوس، فالمشار إليه هو المذكور قبلُ، أو هو إتيان الرّسل الّذي جَرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم، وهو المصدر المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏ألَم يَأتكم رسلٌ منكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏ فإنَّه لمّا حكى ذلك القول للنّاس السّامعين، صار ذلك القول المحكي كالحاضر، فصحّ أن يشار إلى شيء يؤخذ منه‏.‏ واسم الإشارة إمّا مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره‏:‏ ذلك الأمر أو الأمر ذلك، كما يدلّ عليه ضمير الشأن المقدّر بعد ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، كما هو استعمالها عند التّخفيف، وذلك لأنّ هذا الخبر له شأن يجدر أن يُعرَف والجملة خبر ‏{‏أن‏}‏، وحذفت لام التّعليل الداخلة على ‏{‏أن‏}‏‏:‏ لأنّ حذف جارّ ‏{‏أن‏}‏ كثير شائع، والتّقدير‏:‏ ذلك الأمر، أو الأمر ذلك، لأنَّه أي الشأن لم يكن ربّك مُهلك القرى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون‏}‏ هو شأن عظيم من شؤون الله تعالى، وهو شأن عَدله ورحمته، ورضاه لعباده الخير والصّلاح، وكراهيته سوء أعمالهم، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدّم إليهم بالإنذار والتنبيه‏.‏

وفي الكلام إيجاز إذ عُلم منه‏:‏ أنّ الله يهلك القرى المسترسِلَ أهلُها على الشّرك إذا أعرضوا عن دعوة الرّسل، وأنّه لا يهلكهم إلاّ بعد أن يرسل إليهم رسلاً منذرين، وأنّه أراد حمل تَبعَة هلاكهم عليهم، حتى لا يبقى في نفوسهم أن يقولوا‏:‏ لولا رحمنا ربّنا فانبأنا وأعذر إلينا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله‏}‏ ‏(‏أي قبل محمّد صلى الله عليه وسلم أو قبل القرآن‏)‏ ‏{‏لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏ فاقتصر من هذا المعنى على معنى أنّ علّة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة، فدلّ على المعنى المحذوف‏.‏

والإهلاك‏:‏ إعدام ذات الموجود وإماتةُ الحيّ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليَهْلِك من هلك عن بيّنة ويَحْيَى من حَيِيَ عن بيّنة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏ فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها، وإحياؤها إعادةُ عُمرانها بالسكّان والبناء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنَّى يحيي هذه ‏(‏أي القريةَ‏)‏ الله بعد موتها‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ وإهلاك النّاس‏:‏ إبادتهم، وإحياؤهم إبقاؤهم، فمعنى إهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكّانها‏.‏ لأنّ الإهلاك تعلّق بذات القرى، فلا حاجة إلى التمجّز في إطلاق القرى على أهل القرى كما في‏:‏ و‏{‏اسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ لصحّة الحقيقة هنا، ولأنَّه يمنع منه قوله‏:‏ ‏{‏وأهلُها غافلون‏}‏‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ فجعل إهلاكها تدميرها، وإلى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أتَوْا على القرية التي أُمطرت مَطَر السَّوْء أفلم يكونوا يرونها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والباء في‏:‏ ‏{‏بِظلم‏}‏ للسّببيّة، والظلم‏:‏ الشّرك، أي مهلكهم بسبب شرك يَقع فيها فيهلكها ويهلك أهلها الّذين أوقعوه، ولذلك لم يقل‏:‏ بظلم أهلها، لأنَّه أريد أن وجود الظلم فيها سببُ هلاكها، وهلاكُ أهلها بالأحرى لأنَّهم المقصود بالهلاك‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأهلها غافلون‏}‏ حال من ‏{‏القرى‏}‏‏.‏ وصرح هنا ب ‏{‏أهلها‏}‏ تنبيها على أنّ هلاك القُرى من جراء أفعال سكّانها، ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

احتراس على قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 131‏]‏ للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالببِ على أهلها الشركُ والظّلم لا يُحرمون جزاء صلاحهم‏.‏

والتّنوين في‏:‏ ‏{‏ولكل‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏:‏ أي ولكلّهم، أي كلّ أهل القرى المهلَكة درجات‏.‏ يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة‏.‏ فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم‏.‏ والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة‏.‏ بعد أن عُذّبوا في الدّنيا‏.‏ فالله قد ينجي المؤمنين من أهل القُرى قبل نزول العذاب‏.‏ فتلك درجة نالوها في الدّنيا، وهي درجة إظهار عناية الله بهم، وتُرفع درجتهم في الآخرة‏.‏ والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة‏.‏ وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ روى البخاري، ومسلم، عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذَا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثمّ بُعثوا على أعمالهم ‏"‏‏.‏ وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البيهقي في «الشُعب» مرفوعاً أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهللِ نقمته وفيهم الصّالحون قُبضوا معهم ثمّ بُعثوا على نياتهم وأعمالهم، صحّحه ابن حِبّان‏.‏ وفي «صحيح البخاري»، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين ‏(‏أي عقد أصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعُقَد بضم العين وفتح القاف‏)‏ قِيل‏:‏ أنهلك وفينا الصّالحون، قال‏:‏ نَعَم إذا كثر الخُبْث ‏"‏‏.‏

والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى، في سُلم أو بناء، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏يرفع اللَّهُ الذين آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏ ولمّا كان لفظ ‏(‏كلّ‏)‏ مراداً به جميع أهل القرية، وأتى بلفظ ‏{‏الدّرجات‏}‏ كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لِتَطمئنّ نفوسُ المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب‏:‏ في الدّنيا بالهجرة، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنَّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين، ففي هذه الآية إيذان بأنَّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏

وقدْ عُلم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نِذارة المشركين‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏مما عملوا‏}‏ تعليلية، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏ خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يعلمون‏}‏ بياء الغيبة فيعود الضّمير إلى أهل القرى، والمقصود مشركو مكّة، فهو للتّسليّة والتّطمين لئلا يستبطئ وعد الله بالنَّصر، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب‏:‏ واسمعي يا جارة‏.‏ وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب، فالخطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم، ترشيحاً للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه، ليكون سَلاً لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة‏}‏‏.‏

عُطفْت جملة‏:‏ ‏{‏وربك الغني‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏وما ربُّك بغافل عمّا يعملون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 132‏]‏ إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب، كما قال‏:‏ ‏{‏وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏58‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ وربك‏}‏ إظهار، في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وهو الغنيّ ذو الرّحمة، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم

والغنيّ‏:‏ هو الّذي لا يحتاج إلى غيره، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال، وقد قال علماء الكلام‏:‏ إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه، هو أشدّ الافتقار، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة‏.‏ إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق‏.‏ وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات‏.‏ وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يكن غنياً أو فقيراً‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏135‏)‏‏.‏

وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر الغنى على الله، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم، أي ربّك الغنيّ لا غيره، وغناه تعالى حقيقي‏.‏ وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه، وهو‏:‏ إن يشأ يذهبكم‏}‏ فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى‏.‏

و ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ خبر ثان‏.‏ وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه‏:‏ ‏{‏ذو الرحمة‏}‏‏:‏ لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف، وهي جوده عليهم، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق، فأوثرت بكلمة ‏{‏ذو‏}‏ لأنّ ‏{‏ذو‏}‏ كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس، ومعناها صاحب، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم‏.‏

‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ‏}‏‏.‏

استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك، فيقولون‏:‏ ‏{‏متى هذا الفتح إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 28‏]‏ وذلك ما يؤذن به قوله عقبه‏:‏ ‏{‏إنَّ مَا توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏

فالخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين، ويجوز أن يكون إقبالاً على خطاب المشركين فيكون تهديداً صريحاً‏.‏

والمعنى‏:‏ إن يشأ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلفْ من بعدكم من يشاءُ ممّن يؤمن به كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوما غيرَكم ثمّ لا يَكونوا أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ أي فما إمهاله إيَّاكم إلاّ لأنَّه الغنيّ ذو الرّحمة‏.‏ وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ‏.‏ ومفعول‏:‏ ‏{‏يشأ‏}‏ محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة‏.‏

والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله‏:‏ ‏{‏وإنَّا على ذهاب به لقادرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والاستخلاف‏:‏ جعل الخَلف عن الشّيء، والخَلَف‏:‏ العوض عن شيء فائت، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة عامّة، أي‏:‏ ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم‏.‏

والتّشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏ تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب‏.‏

وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره‏:‏ استخلافاً كما أنشأكم، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏‏.‏

ووصف قوم‏}‏ ب ‏{‏آخرين‏}‏ للدّلالة على المغايرة، أي قوم ليسوا من قبائل العرب، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشيء أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن، وهذا كناية عن تباعد العصور، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 133‏]‏ فإنّ المشيئة تشتمل على حالين‏:‏ حاللِ ترك إهلاكهم، وحاللِ إيقاعه، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب، ولك أن تجعل الجملة استئنافاً بيانياً‏:‏ جواباً عن أن يقول سائل من المشركين، متوركاً بالوعيد‏:‏ إذا كنّا قد أُمهلنا وأخِّر عنَّا الاستئصال فقد أُفلتنا من الوعيد، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا، فورد قوله‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لأت‏}‏ مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشئ عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ مَا أُوعد به المشركون، واقع لا محالة وإنْ تأخّر‏.‏

والتّأكيد ب ‏{‏أنّ‏}‏ مناسب لمقام المتردّد الطالب، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنَّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به، فإنَّهم قالوا‏:‏ ‏{‏اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ إ فحاماً للرّسول صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لتخلّف وعيده‏.‏

وبناء ‏{‏توعدون‏}‏ للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وَعد يَعِد، أو مضارع أوْعد، يُوعد والمتبادر هو الأوّل‏.‏ ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين، ولو بني للمعلوم لتعيّن فيه أحد الأمرين‏:‏ بأن يقال‏:‏ إنّ ما نعدكم، أو إنّ ما نُوعدكم، وهذا من بديع التّوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كلّ فريق من السّامعين ما يليق بحاله، ومعلوم أنّ وعيد المشركين يستلزم وعْداً للمؤمنين، والمقصود الأهمّ هو وعيد المشركين، فلذلك عقّب الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ فذلك كالتّرشيح لأحد المحتمَلين من الكلام الموجَّه‏.‏

والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعودِ به المنتظر وقوعه بالشّخص الغائب المنتظرِ إتيانُه، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذابُ الله بغتة أو جهرة في هذه السورة‏.‏

وحقيقة المُعجز هو الّذي يَجعل طالب شيءٍ عاجزاً عن نواله، أي غير قادرين، ويستعمل مجازاً في معنى الإفلات من تَناوُل طالبِه كما قال إياس بن قبيصَة الطائي‏:‏

ألم تَرَ أنّ الأرضَ رحْب فسيحة *** فهَل تُعْجزَنِّي بُقعة من بِقاعها

أي فلا تُفلت منّي بقعة منها لا يصل إليها العدوّ الّذي يطالبني‏.‏ فالمعنى‏:‏ وما أنتم بمعجزي أي‏:‏ بمفلتين من وعيدي، أو بخارجين عن قدرتي، وهو صالح للاحتمالين‏.‏

ومجيء الجملة اسميّة في قوله‏:‏ وما أنتم بمعجزين‏}‏ لإفادة الثّبات والدّوام، في نسبة المسند للمسند إليه، وهي نسبةُ نفيه عن المسند إليه، لأنّ الخصوصيات الّتي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النّفي إذ النّفي إنَّما هو كيفيّة للنّسبة‏.‏ والخصوصياتُ مقتضياتُ أحواللِ التّركيب، وليس يختلف النّفي عن الإثبات إلاّ في اعتبار القيود الزائدة على أصل التّركيب، فإنّ النّفي يعتبر متوجّهاً إليها خاصّة وَهي قيود مفاهيم المخالفة، وإلاّ لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفياً، مثل إفادة التجدّد في المسند الفعلي في قول جؤية بن النضر‏:‏

لا يألفُ الدرهمُ المضروب صرّتَنا *** لكن يمرّ عليها وهو منطق

إذ لا فرق في إفادة التّجدّد بين هذا المصراع، وبين أن تقول‏:‏ ألِفَ الدّرهم صرّتنا‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ هُنّ حِلّ لهم ولا هُم يحِلّون لهنّ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فإنّ الأول يفيد أنّ نفي حِلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف، والثّاني يفيد أنّ نفي حِلّهم لهُنّ حكم متجدّد لا ينسخ، فهما اعتباران، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه لا يحبّ كلّ كفّار أثِيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏276‏)‏‏.‏